فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (14):

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الله يُدخلُ الذين آمنوا}، وتمكنوا من الإيمان، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات، ولم يعبدوه على حرف، {وعملوا} الأعمال {الصالحات}، {جناتٍ تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها {الأنهارُ} الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات، وأنَّ الله تفضل عليهم، بما لا غاية وراءه، إثر بيان سوء حال الكفرة، من المجاهرين والمذبذبين، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم، بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى: {إِن الله يفعل ما يريد} من الأفعال المتقنة، المبنية على الحِكَم البالغة الرائقة، التي من جملتها: إثابة من آمن به، وصدّق رسوله، وعبده على كل حال، وعقابُ من أشرك به، وكذب رسول الله، أو عبده على حرف. وبالله التوفيق.
الإشارة: إن الله يُدخل الذين آمنوا، واطمأنوا به، وعبدوه في جميع الحالات، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحكم، إن الله يفعل ما يريد؛ فيقرب هذا، ويُبعد هذا، بلا سبب؛ جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (15- 16):

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة، فمن كان {يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة}، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده، ويفعل ما يدفع ذلك؛ من الخدع والمكائد، فليبالغ في استفراغ المجهود، وليجاوز كل حد معهود، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. {فليمدد بسبب إِلى السماء} أي: فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته، {ثم ليقطع} أي: ليختنق، من قَطعَ: إذا اختنق؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو: ليقطع من الأرض، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
{فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه} أي: فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله، وسمى فعله كيدًا، على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه، فَتَحَصَّل أن الضمير في {ينصره} يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم ذكره صراحة، لكنه معهود؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل: يعود على {مَن}، والمعنى على هذا: من ظن- بسبب ضيق صدره، وكثرة غمه- أن لن ينصره الله، فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق، على هذا، القنوطُ والسخط من القضاء، وسوء الظن بالله تعالى، حتى يئس من نصره.
قال ابن جزي: وهذا القول أرجح من الأول؛ لوجهين: أحدهما: أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف؛ لأنه، إذا أصابته فتنة، انقلب وقنط، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر {أن لن ينصره الله} أي: لن يرزقه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ، فيكون الكلام، على هذا، متصلاً بما قبله. ويؤيده أيضًا: قوله تعالى، قبله: {إن الله يفعل ما يريد} أي: الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني: أن الضمير في {ينصره}، على هذا، يعود على ما تقدّمه ذكر، دون الأول. اهـ. وانظر ابن عطية والكواشي، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي، ورده للأول، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
ثم قال تعالى: {وكذلك أنزلناه آيات} أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحِكَم البالغة، أنزلناه، أي: القرآن الكريم كله، حال كونه {آيات بيناتٍ} واضحات الدلالة على معانيها الرائقة، {وأن الله يهدي} به {مَن يريد} هدايته؛ ابتداء، أو يثبته على الهُدى دوامًا، ومحل {أن}: إما الجار، أي: ولأن الله يهدي، أو الرفع، أي: والأمر أن الله يهدي من يريد.
الإشارة: من غلبته نفسُه، وملكته وأسرته في يدها؛ فدواؤه: الفزع إلى الله، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها: هو الفزع إلى أولياء الله، العارفين به، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل، فإذا ظفر بهم، فليلزم صُحبتهم، وليتبع طريقهم، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه، من غير تردد ولا توقف، فهم معناه، شرعًا، أم لا، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده، ويظفر بنفسه في أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان، وجَرِّبْ... ففي التجريب علم الحقائق، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد، فليفزع إليه، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام، وتذهب عنه الأمراض والأسقام، بإشراق شمس العرفان على قلبه، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان، وغير هذا عناء وتعب، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك، فلا يذهب عنه بالكلية، فربما يهيج عليه في وقت الضعف، عند الموت، فلا يستطيع دفعه، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.
فإن قلت: هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب؟ قلت: والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له: ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه؛ لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (17):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}
قلت: إنَّ {الله يفصل}: خبر {إنَّ} الأولى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين آمنوا} بما ذكر من الآيات البينات، أو بكل ما يجب الإيمان به- فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا- أي: آمنوا بذلك، بهداية الله وإرادته، {والذين هادوا والصابئين}، وهم قوم من النصارى، اعتزلوهم، ولبسوا المسوح، وقيل: أخذوا من دين النصارى شيئًا، ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم أصلين: نورًا وظلمة، ويعتقدون تأثير النجوم. {والمجوس} وهم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور، والشر من الظلمة، {والذين أشركوا}، وهم عبدة الأصنام؛ من العرب وغيرهم، فهذه ستة أديان، خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. {إِن الله يفصِلُ بينهم يوم القيامة}؛ في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاء واحدًا، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر، بإظهار المحق من المبطل، فيُكْرم المحق ويهين المبطل، {إن الله على كل شيء شهيد} أي: عالم بكل شيء، مراقب لأحواله، حافظ له، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة: إجراء جزائه اللائق عليه، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة؛ يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين، أو مع عامة أهل اليمين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (18):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم ترَ}، أيها السامع، أو من يتأتى منه الرؤية، أي: رؤية علم واستبصار، أو: يا محمد، علمًا يقوم مقام العيان، {أنَّ الله يسجد له} أي: ينقاد إليه انقيادًا تامًا {مَن في السماواتِ} من الملائكة، {ومن في الأرض} من الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون {من}؛ عامة للعاقل وغيره، فيدخل كل ما في السماوات من عجائب المصنوعات، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله: {والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ}، من عطف الخاص على العام؛ لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية: (ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر، إلا يقع ساجدًا حين تغيب، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له). وذكر في صحيح البخاري: «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» وقال مجاهد: (سجود الجبال والشجر والدواب: تَحَوُّلُ ظِلاَلِها). أو سجودُها: طاعتها؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
{وكثيرٌ من الناس} يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة، {وكثيرٌ حقَّ عليه العذابُ}؛ حيث امتنع من هذا السجود، الذي هو سجود عبادة؛ لكفره وعتوه. قال ابن عرفة قوله: {وكثير}: يحتمل كونه مبتدأ، ويكون في الآية حذف المقابل، أي: وكثير من الناس مثاب، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. اهـ. وقدَّره غيرُه: وكثير من الناس يسجدون، وكثير يأبى السجود؛ فحق عليه العذاب. وقيل: وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة، وإن سجد للصانع؛ كالفلاسفة واليهود والنصارى. اهـ.
{ومَن يُهِنِ اللهُ}؛ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي، {فما له من مُكرمٍ} بالسعادة، أو يوم القيامة، بل يذل ويهان، {إن الله يفعل ما يشاء} في ملكه؛ يُكرم من يشاء بفضله، ويُهين من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك، إنك على كل شيء قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء، وبأنوار صفاته لظاهرها، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، فعرفه كلُّ شيء، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم: (أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء، فما جَهِلَكَ شيءٌ). فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني، وخاضعة للكبير المتعالي، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني، ولم يقف مع حس الأواني، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن، إلا من أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يُهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.

.تفسير الآيات (19- 24):

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}
قلت: {خصمان}: صفة لمحذوف، أي: فريقان خصمان، والمراد: فريق المؤمنين، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل: اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد هنا: الجماعة، بدليل قوله: {اختصموا}؛ بالجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هذان خصمان} أي: مختصمان {اختصموا} أي: فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (راجع إلى أهل الأديان المذكورة)؛ فالمؤمنون خَصْمٌ، وسائرُ الخمسة خصمٌ، تخاصموا {في ربهم} أي: في شأنه تعالى، أو في دينه، أو في ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى، فكل فريق يصحح اعتقاده. ويُبطل اعتقاد خصمه. وقيل: تخاصمت اليهود والمؤمنون؛ فقالت اليهودُ: نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا، ونبيُّنا قبل نبيِّكم. وقال المؤمنون: نحن أحقُّ بالله منكم، آمنا بنبينا ونبيكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم كفرتم به؛ حسدًا. وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش، تبارَزوا يوم بَدر؛ حمزةُ وعليٌّ، وعبيدة بن الحارث، مع عتبة، وشيبة ابني ربيعةَ، والوليدُ. وقال عليّ رضي الله عنه: إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة؛ للخُصومة. اهـ.
ثم بيَّن الفصل بينهم، المذكور في قوله: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة}، فقال: {فالذين كفروا} بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، {قُطِّعَت لهم ثيابٌ من نار} أي فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم، تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب للبوس. وعبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه. {يُصَبُّ من فوق رؤوسهم الحميمُ} أي: الماء الحار. عن ابن عباس رضي الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. {يُصهَرُ}: يُذاب {به} أي: بالحميم، {ما في بطونهم} من الأمعاء والأحشاء، {والجلودُ} تذاب أيضًا، فيُؤثر في الظاهر والباطن، كلما نضجت جلودهم بُدلت. وتقديم ما في الباطن؛ للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس.
{ولهم مقامعُ من حديدٍ} أي: ولتعذيب الكفرة، أو لأجلهم، مقامع: جمع مقمعة، وهي آلة القمع، أي: سيَاط من حديد، يُضربون بها. {كُلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي: أشرفوا على الخروج من النار، ودنوا منه، حسبما رُويَ: أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وقوله: {من غَمّ}: بدل اشتمال من ضمير {منها}؛ بإعادة الجار، والعائد: محذوف، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها {أُعيدوا فيها} أي: في قعرها، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها، من غير أن يخرجوا منها، {و} قيل لهم: {ذُوقوا عذابَ الحريق} أي: الغليظ من النار، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر، وهم أهل الحق، فقال: {إن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار}، وغيَّر الأسلوب فيه، بإسناد الإدخال إلى الله عزّ وجلّ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد؛ إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين، {يُحلَّون فيها} من التحلية، وهو التزين، أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى {من أساورَ} أي: بعض أساور: جمع سوار، {من ذهبٍ} للبيان، أي يلبسون أساور مصنوعة من ذهب، {ولؤلؤًا}، من جَرَّهُ: عَطَفَهُ على {ذهب}، أو {أساور}، ومَنْ نَصَبَهُ: فعلى محل {من أساور}، أي: ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا، أو بفعل محذوف، أي: ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا.
{ولباسُهُم فيها حريرٌ}: أبريسِمْ، وغيَّر الأسلوب، فلم يقل: ويلبسون حريرًا؛ لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غَنِيُّ عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج للبيان: أيُّ لباس هو، بخلاف الأساور واللؤلؤ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات. انظر أبا السعود.
{وهُدُوا إِلى الطيب من القول}، وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله أو: الحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بدليل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فَاطِر: 10]. {وهُدُوا إِلى صراط الحميد} أي: المحمود، وهو الإسلام. أو: ألهمهم اللهُ في الآخرة أن يقولوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهداهم فيها إلى طريق الجنة. وقيل: إلى طريق الوصول إلى الله العزيز الحميد، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن في شأن الربوبية، فقال أهل الظاهر: الحق تعالى لا يُرى في دار الدنيا، ولا تُمكن معرفته، إلا من جهة الدليل والبرهان، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية: الحق تعالى يُرى في هذه الدار، كما يرى في تلك الدار، من طريق العرفان، على نعت الشهود والعيان، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية، فلا يزال يحاذيه ويسير به، حتى يقول: ها أنت وربك، فحينئذ تشرق عليه شموسُ العرفان، فتُغطى عنه وجود حس الأكوان، فلا يرى حينئذ إلا المكون، حتى لو كُلف أن يرى غيره لم يستطع؛ إذ لا غير معه حتى يشهده.
وقال بعضهم: (مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه). وفي مناجاة الحكم العطائية: «إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!». وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات.
ويقال له: ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.